إسرائيل وإيران- صراع الردع المتبادل وتأثير الولايات المتحدة

تعلقت أبصار الإسرائيليين بشاشة "إكس" بفضول بالغ، ليس للاطلاع على بيانات المتحدث العسكري هاغاري، أو تحليلات القيادة العسكرية للرد الإيراني، ولا حتى ترقب تعقيب نتنياهو، الغارق في صمته المطبق، بل لمعرفة ما سيخطه بن غفير، وتوقع ما إذا كان سيهزأ كعادته، أم سيلقي بقنبلة كلامية مدوية!
على امتداد خمسة وعشرين يومًا، أمعنت إسرائيل النظر في حقها في الانتقام في التوقيت والمكان اللذين تختارهما، وسعت بكل قوتها لإضفاء الشرعية على هذا التصرف. بالتوازي مع ذلك، قادت حملات دبلوماسية واسعة النطاق للترويج لحجم الضربة التي تعتزم توجيهها للجمهورية الإسلامية الإيرانية، بينما كان هناك نشاط محموم للدبلوماسية الإيرانية في الشرق الأوسط، التي تهدف إلى إبراز قوة الردع الإيرانية في المنطقة.
بناءً على ذلك، يمكن التأكيد أنه على مدار الأسابيع الخمسة الماضية، شهدنا تبادلًا للرسائل النارية بين إسرائيل وإيران داخل المنطقة، وكأن المنطقة الساحة الخلفية لكلا الطرفين، وتصل أصداء هذه المناوشات إلى كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين، باعتبارهم حلفاء لطرفي الصراع.
لقد بات جليًا وواضحًا أن الجبهة الإيرانية هي الأخطر والأعمق، وتمتلك امتدادًا جيوسياسيًا أوسع بكثير من الجبهات الست الأخرى التي تواجهها إسرائيل. فهي تختلف جوهريًا عن الجبهة اللبنانية، التي تمثل أهمية إستراتيجية لإعادة الاعتبار للهوية الإسرائيلية، وعن الجبهة الغزية، التي تمثل ساحة لتفريغ الرغبات الانتقامية، ذات طابع شعبي وميداني، والتي يستخدمها نتنياهو لإسكات أفراد ائتلافه الحكومي، وقمع نفوذهم المتزايد.
لذا، روجت إسرائيل لفكرة أن الهجوم على إيران سيكون بمثابة رد حاسم وقوي، وسيكون الرد الأكبر والأكثر تأثيرًا، وذلك بفضل التدريبات المتقنة والاستعدادات المكثفة التي يجريها الطيارون منذ سنوات، على حد تعبير غالانت. كما أن هذا الرد يحظى بدعم مطلق من قبل الولايات المتحدة، التي أرسلت مدمرات ومنظومة "ثاد" الدفاعية، رغم امتلاك إسرائيل لمنظومة "حيتس 1 و 3"، وسرب من سلاح الجو على أهبة الاستعداد لمواجهة أي رد فعل إيراني، ويأتي كل هذا في سياق الترويج لضربة كبرى.
في خضم هذه الأحداث، تكاثر الحديث عن الأهداف المحتملة للضربة الإسرائيلية في إيران. إسرائيل، التي فقدت معظم حلفائها على الساحة الدولية، ولم يعد لديها سوى الولايات المتحدة وألمانيا على الساحة الأوروبية، بات واضحًا أن الضربة الإيرانية – في الأول من أكتوبر، مثل الضربة السابقة في أبريل والتي واجهت مقاومة جوية كبيرة – لم تكن موجهة ضد إسرائيل وحدها.
وانطلاقًا من هذه النقطة، تضاءلت الخيارات المطروحة أمام إسرائيل، بغض النظر عن أهدافها الخفية ونواياها المعلنة. إضافةً إلى ذلك، فإن اللجوء إلى خيار الضربة النووية سيضع الجمهورية الإسلامية في موقف لا تحسد عليه، بحيث لن يكون لديها ما تخسره، وبالتالي فإن مثل هذه الخطوة ستدفعها إلى خوض حرب شاملة، وليس مجرد تبادل للضربات، وبالتأكيد إسرائيل لا ترغب في الدخول في حرب كهذه بمفردها على الأقل.
وقد أوضح نتنياهو هذا الأمر في الواحد والعشرين من أكتوبر، مستشهدًا بمقولة والده: "إن تلقين إيران درسًا قاسيًا سيحدث عندما نكون نحن – الإسرائيليين – وهم – الإيرانيون – على أتم الاستعداد لذلك!"، مما يؤكد أن آلية عمل نتنياهو تقوم على التقدم التدريجي نحو إيران، وليس الاندفاع المتهور، لأنه يرى في إيران قضية يمكن استغلالها لتبرير تنفيذ مخططاته في الشرق الأوسط، كما أن الولايات المتحدة، بطبيعة الحال، لا ترغب في الانخراط في حرب واسعة النطاق؛ لأن الإدارة الأميركية الحالية تعاني من الضعف، وهي مقبلة على انتخابات مصيرية، وليست في وضع يسمح لها بالدخول في حرب قد تؤثر على نتائج الانتخابات الرئاسية.
أما المسار الغائب، وبعيدًا عن الضربة الاقتصادية، يجب أن ندرك أن تداعياتها ستخلف تأثيرين بالغين. التأثير الأول قد يلحق أضرارًا فادحة بالاستثمارات الأوروبية، كفرنسا على سبيل المثال، التي أبدت غضبًا عارمًا ورفعت صوتها في وجه نتنياهو، وقد شهدنا بالفعل مناوشات كلامية بين الطرفين.
أما التأثير الثاني، فقد يترك آثارًا سلبية غير مباشرة على الاقتصاد الإسرائيلي، حيث إن أي استهداف لمنشآت النفط في إيران سيؤثر بشكل مباشر على أسعار الوقود داخل إسرائيل، وهذا سيهدر جهود نتنياهو التي بذلها على مدار عام كامل، في محاولة لتجنب إثارة غضب الشارع الإسرائيلي، وعدم المساس بمواردهم المالية، وتفادي الأزمات الاقتصادية حتى لا يتأثر المواطنون بتداعيات الحرب، كما حدث في الحروب السابقة.
إلا أن الوضع الاقتصادي سينفجر في نهاية المطاف، مهما حاول نتنياهو تأجيل ذلك قدر الإمكان، مما يجعله أمام ثلاثة خيارات:
الخيار الأول: هو تصعيد عمليات الاغتيال، ولكن من المستبعد أن يلجأ إليه في الوقت الراهن، لأنه لن يحقق الأهداف الإسرائيلية المرجوة. الخيار الثاني: هو قصف المنشآت المدنية والبنية التحتية، الأمر الذي سيعرض إسرائيل لتهديد خطير، فهي تخشى ردًا إيرانيًا مماثلًا. ويبقى الخيار الثالث: وهو توجيه ضربة عسكرية محدودة، وهو ما يتماشى مع مفهوم "هيبة الردع" الذي يتغنى به نتنياهو؛ بهدف استقطاب دعم الشارع الإسرائيلي، وإظهار قدرته على الرد على كل من تسول له نفسه المساس بأمنهم واستقرارهم، والحفاظ على قواعد الاشتباك مع إيران كما هي مع حزب الله، لكن بزخم أكبر.
بناءً على ما سبق، تحتاج إسرائيل لتحقيق هدفين رئيسيين:
- الهدف الأول هو استعادة هيبة الردع المفقودة، وهو ما دفعها لشن حرب ضروس على قطاع غزة، والتي تحظى بدعم وإجماع إسرائيلي واسع.
- الهدف الثاني هو إشباع الرغبة الانتقامية، حيث يحاول نتنياهو من خلاله تحقيق مفهوم "الحرب الوجودية"، وتعبئة وتحريض الشارع الإسرائيلي ضد كل من يهدد وجودهم وكيانهم، وإسكات أصواتهم المطالبة بالإجابة على السؤال المحوري: "على ماذا نقاتل؟!"، وبالتالي، يحتاج نتنياهو إلى أحد هذين السيناريوهين لكي يترجم نصره المزعوم؛ إما إخماد نار إيران، أو إشعال المنطقة برمتها، وبدون ذلك لن يحقق نصره المنشود.
بعد ليلة الرد، وبغض النظر عن تغريدة بن غفير، سيبارك ائتلاف نتنياهو هذه العملية، ويصفها بالشجاعة والمعقدة والناجحة، بالإضافة إلى الترويج لها وتسليط الضوء على الزخم الجوي والجهود الاستخباراتية المبذولة، وهذا هو المشهد الاحتفالي الذي يتمناه نتنياهو.
ولكن على الجانب المقابل، هناك أصوات معارضة لم تشعر بالنشوة الانتقامية، بل ترى أن الرد الإسرائيلي على الضربة الإيرانية التي اخترقت الأجواء الإسرائيلية لم يكن مناسبًا ولا يتناسب مع حجم الجرأة الإيرانية في الأول من أكتوبر، مما يؤكد أن نتنياهو ينتصر فقط في الحروب التي لا يخوضها بالفعل.
إن المشهد بعد الضربة الإسرائيلية ينقسم الآن بين التعتيم الإعلامي والتضخيم المبالغ فيه. ويبدو أن إيران تحاول – من خلال صمتها المطبق حتى اللحظة – التقليل من أهمية هذه الضربة، رغم تأكيدها المستمر على أنها سترد في الوقت المناسب، وبالتأكيد سيستغرق الأمر أسابيع لتقييم تداعيات الموقف بدقة، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، حيث إن لإيران حساباتها ومصالحها الخاصة المتعلقة بنتائج هذه الانتخابات، وتفضل الديمقراطيين الذين يجرون معها محادثات، وإن كانت غير مباشرة، في حين أن الجمهوريين يدعون صراحة إلى فرض حصار خانق وعقوبات مشددة عليها.
كل هذه التطورات بتداعياتها المحتملة، تؤكد على الكفالة الأميركية غير المشروطة لإسرائيل، حيث سارعت الولايات المتحدة للإعلان عن علمها بهذه الضربة وتأييدها الكامل لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. ومع ذلك، فإن الردود المتبادلة بين إيران وإسرائيل لا تزال قيد النقاش فقط على الطاولة الدبلوماسية حتى هذه اللحظة.
كما تجدر الإشارة إلى زيارة بلينكن الأخيرة لإسرائيل، حيث أكد أنه في حال امتثال نتنياهو للمطالب الأميركية، ستكون هناك مكافآت سخية، من ضمنها عملية تطبيع واسعة النطاق في منطقة الشرق الأوسط.
وعليه، فإن الزيارات المتكررة من جانب الولايات المتحدة، والدعم غير المحدود لإسرائيل – سواء على الصعيد المادي أو العسكري أو السياسي – يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن أمن إسرائيل لا يمكن أن يتحقق، بل حتى لا يمكن أن يوجد، بدون الدعم المطلق من الولايات المتحدة الأميركية.
ولكن لا شك أن هذا الدعم الهائل له ثمن باهظ، ويتطلب انصياعًا كاملًا من الجانب الإسرائيلي للإدارة الأميركية. ومع ذلك، نلاحظ أن إسرائيل تتمتع بحرية التصرف في نطاق ضيق، ولكن فيما عدا ذلك، أثبت التاريخ على مر العصور، منذ عام 1956، أي ما قبل "الزواج" الإسرائيلي الأميركي الرسمي، ومرورًا بعام 1976، وسنوات الثمانينيات، وصولًا إلى الضربة العراقية لتل أبيب، أن هناك انصياعًا إسرائيليًا كاملًا للرغبات الأميركية، حتى وإن حاول نتنياهو استغلال الإدارة الأميركية بابتزازها أمام حلفائها، فهو يدرك تمام الإدراك أن الولايات المتحدة تسعى جاهدة لاستعادة هيبتها المفقودة بعد كل ما حدث في منطقة الشرق الأوسط في عهد أوباما، وما يحدث حاليًا في أوكرانيا في عهد بايدن، وبالتالي فهو يحاول استغلال ضعف هذه الإدارة لتحقيق مكاسب شخصية.
بالنسبة للولايات المتحدة، فلديها أهدافها ومصالحها الخاصة داخل المنطقة، وهي تسعى بكل تأكيد إلى تقليص نفوذ إيران وحماس وحزب الله. ولكنها، في الوقت ذاته، لا تعتبر بن غفير وسموتريتش أقل خطرًا منهما، مما يضع نتنياهو في موقف حرج للغاية؛ فهو يعلم تمام العلم أن الدعم الأميركي لإسرائيل ليس مطلقًا، وأنه مشروط بتوجهات وتوازنات سياسية معينة.
ولهذا السبب، قد يستغل نتنياهو فترة الفراغ السياسي في البيت الأبيض التي ستستمر لعدة أشهر في حال انشغال الإدارة الأميركية الجديدة بترتيب أوضاعها الداخلية، لكي يعقد المشهد الميداني في المنطقة أكثر فأكثر، مما قد يحول دون ممارسة أي ضغوط عليه من قبل الإدارة الأميركية الجديدة.
وهكذا، قد يسعى نتنياهو جاهدًا لاستغلال هذا الفراغ السياسي من خلال زيادة التحركات العسكرية أو الدبلوماسية؛ لكي يضمن أنه في أي مفاوضات مستقبلية سيكون في وضع تفاوضي أقوى، وأن الإدارة الأميركية لن تتمكن من فرض أي شروط قاسية عليه بسهولة.
هذه الإستراتيجية قد تكون جزءًا من خطة طويلة الأمد للضغط على إيران، ليس فقط لإضعافها عسكريًا، ولكن أيضًا لإجبارها على تقديم تنازلات في قضايا أخرى حساسة، مثل: الملف النووي الإيراني، وبرنامج الصواريخ الباليستية، والحد من نفوذها الإقليمي المتزايد.
لكن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل ستتجه إسرائيل نحو تصعيد شامل ضد إيران؟ وهل ستتخذ الولايات المتحدة موقفًا حازمًا يدعم هذه التحركات أم ستحافظ على دعمها ضمن حدود معينة، مع تجنب أي مواجهة كبرى قد تهدد مصالحها الإستراتيجية في المنطقة؟
تبقى جميع الخيارات مطروحة على طاولة المفاوضات، لكن المؤكد هو أن العلاقات المتوترة بين إسرائيل وإيران لن تشهد انفراجة قريبة في ظل التحركات العسكرية والسياسية الحثيثة من كلا الجانبين، واستمرار النفوذ الأميركي كعنصر مؤثر ومحوري في هذه المعادلة المعقدة.